النهار

٠١ نوفمبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠١ نوفمبر-٢٠٢٥       2805

بقلم - علي بن عيضة المالكي

أصبح هذا العالم عجيب وغريب، كل ما فيه يتقد بالصخب، ويُقاس فيه الوجود بمدى الظهور، تصبح فكرة النجاح الهادئ موقفًا فلسفيًا أكثر منها خيارًا عمليًا. عبارة "النجاح يبدأ من اللاضجيج" ليست دعوة إلى الانعزال، لكنها دعوة إلى التحرر من هيمنة الضوضاء الاجتماعية التي جعلت من الصوت العالي معيارًا للإنجاز.

لقد تحوّل النجاح في الوعي الجمعي الحديث إلى حدثٍ اجتماعي أكثر من كونه رحلة شخصية. يُقاس بكمّ الإعجابات والمتابعين هذا أمر ينبغي ألا يستمر كثيرًا لكيلا يحدث تسطيح أعمق لجوهر الفكر، وهنا تكمن الأزمة: الإنجاز لم يعد يُنتظر ليُرى في نتائجه، أصبح الإنجاز يُستعجل ليُعرض قبل اكتماله. وهكذا وُلدت "ثقافة الإنجاز المسرحي"، التي يُختزل فيها الجهد إلى مشهدٍ متقن الإخراج، فارغ المعنى، وأرجو من المهتمين في الأعمال المسرحية ألا يفهموا كلامي أنني أهاجم المسرح كوني ولدت داخل المسرح المدرسي والجامعي وعملت فيه  إنما ثقافة المسرح الآني لم تعد كما كانت في السابق تبحث عن الجيد من الأفكار، باتت تركز على كم الظهور بعيدًا عن جودته.

في المقابل، اللاضجيج ليس سكونًا ماديًا، هو مساحة فكرية تُبنى فيها النيات وتُختبر الدوافع. إنه المكان الذي يتكوَّن فيه الوعي بعيدًا عن عدسات المقارنة، حيث لا يسمع الإنسان إلا صوته الداخلي وهو يراجع نفسه: هل أعمل لأتطور أم لأُرى؟ هل هدفي الإتقان أم الاعتراف؟

إننا نعيش اليوم أزمة التوثيق المستمر، حيث يُصبح كل جهدٍ مشروطًا بأن يُشارك، وكل عملٍ  يعتبر ناقص إن لم يُعلن. وهذا ما جعل النجاح سطحيًا وسريع الاحتراق. فالأصوات التي ترتفع كثيرًا في بداياتها، غالبًا ما تصمت حين تحين ساعة الجدّ.

أما أولئك الذين يختارون السكون بعيدًا عن الصخب فهم الذين يؤمنون أن القيمة لا تُصنع أمام الناس إنما من خلف الستار، وأن النجاح لا يُقاس بالتصفيق، بقدر ما يقاس بقدرة الفكرة على الصمود دون جمهور.

النقد هنا ليس للظهور بحد ذاته، غير أن المقصود به هيمنة ثقافة الاستعراض التي سرقت من الإنسان جوهر الرحلة. لقد صار الفرد يُسابق الزمن لا لينضج، بل ليُدهش. يركض ليبدو لا ليكون. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن العالم الحديث يدفعنا دفعًا نحو الظهور، إذ باتت الخوارزميات تُكافئ الصوت العالي لا الفكرة الهادئة، فتخلق سباقًا غير متكافئ بين من يفكر ومن يُؤدي.

لكن اللاضجيج ليس هروبًا من الواقع، بل مقاومة له. هو فعل وعي، وموقف منظم ضد فوضى الاستعراض.

إنه إعلان بأن القيمة لا تحتاج إلى جمهور لتُثبت نفسها، وأن الصوت الأصدق هو الذي يأتي من اتساق العمل مع ذاته، لا من ترديده أمام الآخرين.

النجاح الهادئ لا يترك خلفه ضجيجًا، بل أثرًا. لا يملأ المساحات بالكلام، بل يترك الفعل يتكلم.

وفي عالمٍ يتسابق فيه الجميع إلى الواجهة، ربما يكون أعظم أشكال النجاح أن تبقى في الظل وأنت تضيء.

في خضم ثقافةٍ تُربّي أبناءها على الظهور قبل الجوهر، يصبح الصمت فعلاً تحويليًّا، والعمل بصمتٍ فعلَ اصطفاف إلى جوار العمق ومقاوم شديد ضد ثقافة التسرع والاستعراض.

 إن "النجاح الذي يبدأ من اللاضجيج" ليس غنىً فكريًا، إنما هو إعادة تعريف للنجاح نفسه: أن يُبنى على الاتزان وليس الاستعراض، وعلى الإتقان لا الترويج.

لقد آن لمجتمعنا أن يُعيد صياغة علاقته بالإنجاز؛ فليس كل ما يُرى حقيقيًا، ولا كل ما يُسمع صادقًا. النجاح الهادئ هو دعوة إلى أن نستبدل ثقافة “الانبهار اللحظي” بثقافة “الأثر الدائم”، وأن نتعلم من الشجر كيف تنمو بصمتٍ وتثمر بكرامة دون أن تصرخ.

في النهاية، يظل اللاضجيج هو المسافة التي يحتمي فيها الفكر من الصخب، والإنسان من زيف الظهور. فمن أراد أن ينجح بحق، فليعمل في الظل حتى يصبح نوره لا يُخفى.

يقول نجيب محفوظ : دع ما تفعل هو من يتحدث عنك ولا تنشغل بإقناع الناس عما تفعله، أما هنري فورد فأورد حكمة يقول فيها : الإنسان لا يحتاج أن يقول للآخرين أنه يفعل شيئًا عظيمًا، فقط عليه أن يفعل وسيرى الناس النتيجة عاجلاً أم آجلاً.